هل يتغير القضاء؟

اختلف العلماء في تحديد أسباب تغيير الأقدار التي قضاها الله عز وجل، فمنهم من يرى أن هناك قضاءً معلّقاً قدّر الله له أسباباً وعلّقه عليها، وأنَّ هناك قضاءً محكماً ليس له أسباب تغيّره، كالسعادة والشقاوة، والآجال، ومنهم من يرى أنَّ كل ما قضى الله من الأقدار يمكن تغييره، وأنه لذلك قد شرع الأسباب، وعلّق ما يشاء من الأقدار على ما يشاء من الأسباب، بدليل قوله تعالى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ۖ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}،[١] فقد سبق في علمه وحكمته ما سيصير إليه العبد من الأسباب المغيرة للأقدار، فالأقدار معلّقة على أسباب سبق في علم الله تعالى أن الإنسان سيفعلها، فقد قدّر الله تعالى أن يكون البرّ وصلة الرحم أسباباً لزيادة العمر، كما قدّر أنَّ السيئات والمعاصي من الأسباب المؤدية لقصر العمر ونزع البركة، فيكون القضاء معلقاً وليس محتّمًا،[٢] عن سُراقةَ بنَ مالِكٍ قال: (يا رسولَ اللهِ، فيمَ العمَلُ؟ أفي شيءٍ قد فُرِغَ منه؟ أو في شيءٍ نستأنِفُه؟ فقال: بل في شيءٍ قد فُرِغَ منه، قال: ففيمَ العمَلُ إذَنْ؟ قال: اعمَلوا، فكلٌّ مُيسَّرٌ لِمَا خُلِقَ له).[٣]


حديث لا يرد القضاء إلا الدعاء

روى هذا الحديث الصحابي سلمان الفارسي رضي الله عنه، وقد حسنه الألباني، فعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يَرُدُّ القضاءَ إلَّا الدُّعاءُ، ولا يزيدُ في العُمرِ إلَّا البِرُّ).[٤]


جاء في هذا الحديث أسلوب من أساليب اللغة العربية، وهو أسلوب النَّفي والاستِثناء، ويفيد هذا الأسلوب في الحصر، وقد ورد هذا الأسلوب في قول: "لا إله إلَّا الله"، بمعنى أنه لا إله يستحقّ العبادة إلا الله، وكذلك فإن مفهوم النفي والاستثناء الوارد في حديث "لا يرد الدعاء إلا القضاء" دلالة على أنّ القضاء لا يرده إلا الدعاء فقط، فإما أنّ الدعاء يكون أقوى من القضاء أو البلاء فيغلب الدعاء القضاء، وإما أن تكون قوة الدعاء بنفس قوة البلاء فيتصارع الدعاء والقضاء حتى قِيام الساعة، وإما أن تكون قوة الدعاء أضعف من قوة البلاء فيقضي الله تعالى بعلمه وحكمته نزول البلاء ولكنه يخفف منه بسبب الدعاء.[٥]


أحاديث نبوية تدل على أن القضاء يرد الدعاء

أمر جلّ وعلا بالدعاء كسبب من الأسباب في تغيير الأقدار، وقد روي عن عمر -رضي الله عنه- أنه كان يقول: (اللهم إن كنت كتبتني شقيًّا فاكتبني سعيدًا)، وقد وردت عدّة أحاديث نبوية عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تدلّ على أن الدعاء يرد القضاء، منها ما هو مباشر الدلالة، ومنها ما دلّ عليه ظاهر النّص، ومنها:

  • (الدعاءُ يردُّ القضاءَ، و إنَّ البرَّ يزيدُ في الرزقِ، و إنَّ العبدَ ليحرمَ الرزقَ بالذنبِ يصيبُهُ).[٦]
  • (لن ينفَعَ حَذَرٌ مِن قَدَرٍ، ولَكِنَّ الدُّعاءَ ينفَعُ مِمَّا نزلَ، ومِمَّا لَم ينزِلْ، فعليكم بالدُّعاءِ عِبادَ اللَّهِ).[٧]
  • (لا يُغني حذرٌ من قدرٍ والدُّعاءُ ينفعُ ممَّا نزل وما لم ينزِلْ وإنَّ البلاءَ لينزِلُ فيلقاه الدُّعاءُ فيعتلِجان إلى يومِ القيامةِ).[٨]
  • في دعاء القنوت: (وقني شَرَّ ما قضيْتَ إِنَّكَ تقْضِي ولا يُقْضَى عليْكَ).[٩]
  • في دعاء الاستخارة: (اللَّهُمَّ إنِّي أسْتَخِيرُكَ بعِلْمِكَ، وأَسْتَقْدِرُكَ بقُدْرَتِكَ، وأَسْأَلُكَ مِن فَضْلِكَ العَظِيمِ، فإنَّكَ تَقْدِرُ ولَا أقْدِرُ، وتَعْلَمُ ولَا أعْلَمُ، وأَنْتَ عَلَّامُ الغُيُوبِ، اللَّهُمَّ إنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أنَّ هذا الأمْرَ خَيْرٌ لي في دِينِي ومعاشِي وعَاقِبَةِ أمْرِي، أوْ قالَ: في عَاجِلِ أمْرِي وآجِلِهِ، فَاقْدُرْهُ لِي، وإنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أنَّ هذا الأمْرَ شَرٌّ لي في دِينِي ومعاشِي وعَاقِبَةِ أمْرِي، أوْ قالَ: في عَاجِلِ أمْرِي وآجِلِهِ، فَاصْرِفْهُ عَنِّي واصْرِفْنِي عنْه، واقْدُرْ لي الخَيْرَ حَيْثُ كَانَ، ثُمَّ رَضِّنِي به، ويُسَمِّي حَاجَتَهُ).[١٠]


أهمية الدعاء في رد القضاء

المسلم مطالب شرعًا بالأخذ بالأسباب التي يسّرها الله لدفع البلاء، ورد القضاء، وأهمها الدعاء، يقول الإمام الغزالي: "فإن قيل ما فائدة الدعاء مع أن القضاء لا مرد له؟ فاعلم أنَّ من جملة القضاء رد البلاء بالدعاء، فإن الدعاء سبب رد البلاء، ووجود الرحمة، كما أنَّ البذر سبب لخروج النبات من الأرض، وكما أنَّ الترس يدفع السهم، كذلك الدعاء يرد البلاء"،[١١] وإن الدعاء القوي الذي يرد القضاء هو الدعاء المستوجِب لشروط القبول، ولو تأملنا في الأقدار التي ينزلها الله تعالى من السماء إلى الأرض في كل يوم، ولو رُفع عنّا الحجابُ لِنرى هذه الأقدار التي لا نستطيع إحصاءها، لفهمنا حِرص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على تعليمنا الدعاء في كل أحوالنا، فمن لحظة الاستيقاظ، مروراً بكل تفاصيلنا اليومية، بما يخطر ببالنا وما لا يخطر ببالنا، وانتهاءً بعودتنا إلى الفراش للنوم، فنحن في دورة دعاء لا تنتهي، وما كان ذلك إلا ليُعلمنا رسولنا الكريم كيف يُدفع بالدعاء ما نزَل وما ينزِل من البلاءات اليومية، فالبعض يُبتلى بالمرض، والبعض يُبتلى بالفقر، وهناك من يُصاب بحادث، ومن يصاب بالحرق أو الغرق، وهناك من يُقتل، وما إلى ذلك من الأقدار والابتلاءات اليومية التي يتعرّض لها الإنسان في حياته، في كل ساعة، وفي كل دقيقة وثانية، فكيف لنا أن ندفعها ونخففها إلا بالدعاء.[١١]


وقد اختصر الإمام ابن القيّم علاقة الدُّعاء بالبلاء، فقال: "والدُّعاء من أنفع الأدويةِ، وهو عدوُّ البلاء، يدافِعه ويعالجه ويمنع نزولَه، ويرفعه أو يخفِّفه إذا نزل، فالدُّعاء عدوُّ البلاء"، وهذا ما حرص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على تطبيقه وتعليمه لصحابته الكرام،[٥] وقد روى الصحابي الجليل أنس بن مالك -رضي الله عن- أنه: (بيْنَما رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَخْطُبُ يَومَ الجُمُعَةِ، إذْ جَاءَهُ رَجُلٌ، فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ قَحَطَ المَطَرُ، فَادْعُ اللَّهَ أنْ يَسْقِيَنَا، فَدَعَا فَمُطِرْنَا، فَما كِدْنَا أنْ نَصِلَ إلى مَنَازِلِنَا فَما زِلْنَا نُمْطَرُ إلى الجُمُعَةِ المُقْبِلَةِ، قالَ: فَقَامَ ذلكَ الرَّجُلُ أوْ غَيْرُهُ، فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أنْ يَصْرِفَهُ عَنَّا، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا ولَا عَلَيْنَا قالَ: فَلقَدْ رَأَيْتُ السَّحَابَ يَتَقَطَّعُ يَمِينًا وشِمَالًا، يُمْطَرُونَ ولَا يُمْطَرُ أهْلُ المَدِينَةِ).[١٢][١١]


أقوال العلماء في معنى لا يرد الدعاء إلا القضاء

  • قال الإمام ابن القيّم في كتابه "الجواب الكافي": "إن هذا المقدور قدّر بأسباب ومن أسبابه الدعاء، فلم يقدر مجرداً عن سببه، ولكن قدر بسببه، فمتى أتى العبد بالسبب وقع المقدور، ومتى لم يأتِ بالسبب انتفى المقدورُ وهكذا، كما قدِّر الشّبَعُ والرِّيُّ بالأكل والشرب، وقُدِّر الوَلَدُ بالوطء، وقُدّر حصول الزرع بالبذر، وحينئذ فالدعاء من أقوى الأسباب، فإذا قُدّر وقوعُ المدعوّ به لم يصحّ أن يقال: لا فائدة في الدعاء، كما لا يقال: لا فائدة في الأكل والشرب".[١٣]
  • قال الطحاوي في "شرح مشكل الآثار"، في باب "بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم من قوله: لَا يَرُدُّ الْقَضَاءَ إِلَّا الدُّعَاءُ ": "هذا مما لا اختلاف فيه، إذ كان قد يحتمل أن يكون الله عز وجل إذا أراد أن يخلُق النَّسمة جعل أجلها إن برت كذا، وإن لم تبر كذا، لما هو دون ذلك، وإن كان منها الدعاء رد عنها كذا، وإن لم يكن منها الدعاء نزل بها كذا، وإن عملت كذا حرمت كذا، وإن لم تعمله رزقت كذا، ويكون ذلك مما يثبت في الصحيفة التي لا يُزاد على ما فيها ولا يُنقص منه، وفي ذلك بحمد الله الْتِئام هذه الْآثار واتفاقها، وانتفاء التَّضادِّ عنها".[١٤]
  • قال السعدي في معنى قوله تعالى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ۖ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}،[١] أي: "يمحو الله ما يشاء من الأقدار ويثبت ما يشاءُ منها، وهذا المحو والتغيير في غيرِ ما سبق به علمُه، وكتب قلمه، فإنَّ هذا لا يقع فيه تبديلٌ ولا تغيير، لأنَّ ذلك مُحالٌ على الله أن يقع في علمه نقص أو خللٌ، ولهذا قال وعنده أم الكتاب أي اللوح المحفوظ الذي تَرجعُ إليه سائرُ الأشياء، فهو أصلها وهي فروع وشعب، فالتغيُّر والتبديل يقع في الفروع والشُّعَبِ، كأعمال اليوم والليلة التي تكتبها الملائكة، ويجعل اللهُ لِثُبوتها أسباباً ولمحوها أسباباً، لا تتعَدّى تلك الأسباب ما رسم في اللوح المحفوظ، كما جعل البِرَّ والصلة والإحسانَ من أسباب طول العمر وسعة الرزق، وكما جعل المعاصيَ سبباً لمحق بركة الرزق والعمر، كما جعل أسباب النجاة من المهالك والمعاطب بحُسْنِ قدرته وإرادته، وما يدبره منها لا يُخالف ما قد علِمه وكتَبَه في اللوح المحفوظ".[١٣]
  • قال الشيخ ابن عثيمين عندما سئل عن معنى قول النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: لا يرد القضاء إلا الدعاء: "أنَّ الدعاء سبب من أسباب القضاء، مثلاً: إذا قدّر الله على شخص مرضاً أن يمرض مثلاً عشرة أيام، ثم دعا فرفعه الله فهنا ردَّ الدعاء القضاء، ويكون الله سبحانه وتعالى قد قدّر أن ينقص هذا المرض بسبب دعائه، فالدعاء مكتوب، ونقص المرض مكتوب".[١٤]


المراجع

  1. ^ أ ب سورة الرعد، آية:39
  2. الشيخ ابن باز، "هل الدعاء يرد القضاء؟"، الموقع الرسمي للشيخ ابن باز، اطّلع عليه بتاريخ 4-4-2021. بتصرّف.
  3. رواه شعيب الأرناؤوط، في تخريج المسند، عن جابر بن عبد الله ، الصفحة أو الرقم:14258، حديث صحيح.
  4. رواه الألباني، في صحيح الترغيب، عن سلمان الفارسي، الصفحة أو الرقم:2489 ، حديث حسن.
  5. ^ أ ب د. حسام الدين السامرائي (24-1-2016)، "لا يرد القضاء إلا الدعاء"، موقع الألوكة، اطّلع عليه بتاريخ 4-4-2021. بتصرّف.
  6. رواه السيوطي، في الجامع الصغير، عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الصفحة أو الرقم:4245، حديث صحيح.
  7. رواه السيوطي، في الجامع الصغير، عن معاذ بن جبل، الصفحة أو الرقم:7378 ، حديث حسن.
  8. رواه المنذري، في الترغيب والترهيب، عن عائشة أم المؤمنين ، الصفحة أو الرقم:391، حديث إسناده صحيح أو حسن أو ما قاربهما.
  9. رواه الألباني، في تخريج كتاب السنة، عن الحسن بن علي بن أبي طالب، الصفحة أو الرقم: 374، حديث صحيح .
  10. رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن جابر بن عبد الله، الصفحة أو الرقم:6382 ، حديث صحيح.
  11. ^ أ ب ت فريق موقع اسلام ويب (26-7-2003)، "القدر.. والدعاء، وهل يمكن تغير القدر"، اسلام ويب، اطّلع عليه بتاريخ 4-4-2021. بتصرّف.
  12. رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أنس بن مالك، الصفحة أو الرقم:1015، حديث صحيح.
  13. ^ أ ب خالد عبد المنعم الرفاعي (21-7-2009)، "القدر والدعاء"، طريق الاسلام، اطّلع عليه بتاريخ 4-4-2021. بتصرّف.
  14. ^ أ ب فريق موقع اسلام ويب (9-3-2013)، "بيان مشكل ما ورد عن الأحاديث من أمور القضاء"، اسلام ويب، اطّلع عليه بتاريخ 4-4-2021. بتصرّف.