إن أفضل ما يهتم ويشتغل به المؤمن في حياته هو ذكر الله -تعالى- ودعاؤه، فذلك أنفع ما تقضى به الأوقات، وأرجى ما تصرف له الأعمار، قال -تعالى-: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ}،[١] وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا}،[٢] وقال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}،[٣] وقال: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}،[٤] فقد أمر الله -تعالى- عباده بذكره ودعائه، وجعل ثواب ذلك السعادة والطمأنينة والفوز في الدنيا والآخرة، وحذرهم من الغفلة عن ذكره ودعائه، وجعل نتيجة ذلك الشقاء والخوف والخسران في الدنيا والآخرة، قال -صلى الله عليه وسلم-: (مَثَلُ الذي يَذْكُرُ رَبَّهُ والذي لا يَذْكُرُ رَبَّهُ، مَثَلُ الحَيِّ والمَيِّتِ)،[٥] وقال أيضاً: (مَنْ لمْ يدعُ اللهَ يَغْضَبْ عليهِ)،[٦] فالدعاء والذكر أمران واردان من الله -تعالى- لعباده المؤمنين،[٧] فهل هناك فرق بينهما؟


الفرق بين الدعاء والذكر

حتى نعرف الفرق بين الدعاء والذكر لا بد أولا من تعريفهما وبيان أنواعهما:


من حيث التعريف

تعريف الدعاء:

الدعاء لغة: هو النداء، وقد جاء في القرآن الكريم بعدة معاني أخرى منها: العبادة، والاستغاثة، والحث، والسؤال، والقول، والتسمية، وغيرها، والدعاء اصطلاحاً: هو رغبة العبد إلى ربه -عز وجل- وطلب معونته واستدعاء عنايته واستمداد رحمته وتوفيقه، وذلك بأن يظهر العبد الافتقار إلى ربه، وأن يبرئ من حوله وقوته، والدعاء هو صفة العبودية والتذلل البشري للخالق العظيم -سبحانه وتعالى-، قال -صلى الله عليه وسلم-: (الدُّعاءُ هو العبادةِ)،[٨] وفي الدعاء ثناء على الله، وإضافة الكرم والجود إليه، ويسمى الدعاء أيضاً سؤال.[٩]


تعريف الذكر:

الذكر لغة: هو القول باللسان وعدم النسيان، وقد وردت كلمة الذكر في القرآن والسنة بعدة معاني، منها القرآن، والرسول، والموعظة، واللوح المحفوظ، وغيرها، أما تعريف الذكر في الاصطلاح: فهو ذكر العبد لربه -تعالى-، إما بالإخبار عن أسمائه، أو عن صفاته، أو عن أفعاله، أو عن أحكامه، أو بتلاوة قرآنه، أو بسؤاله ودعائه، أو بإنشاء المدح والثناء عليه بالتقديس والتمجيد والتوحيد والحمد والشكر والتعظيم، قال -تعالى-: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ}،[١٠] والذكر يكون بالقلب وباللسان، ويشمل جميع أنواع الطاعات والعبادات.[٩]


من حيث الأنواع

أنواع الدعاء:

الدعاء نوعان: دعاء المسألة ودعاء العبادة، أما دعاء المسألة فهو الابتهال إلى الله بالطلب، كأن يقول: يا رب اغفر لي، وأما دعاء العبادة فهو مرادف للذكر، يدخل فيه كل أنواع العبادة من صلاة وتلاوة وصدقة وغيرها، لأن العبد لا يريد من عبادته إلا الرحمة والمغفرة من ربه فكأنه يدعوه.[١١]


أنواع الذكر:

للذكر نوعان: ذكر مقيد وذكر مطلق، فالمقيد هو ما كان محدداً بوقت، كقوله -صلى الله عليه وسلم-: (اقرؤوا المعوِّذاتِ في دُبُرِ كلِّ صلاةٍ)،[١٢] والمطلق كقوله -صلى الله عليه وسلم-: (لأَنْ أَقُولَ سُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، أَحَبُّ إِلَيَّ ممَّا طَلَعَتْ عليه الشَّمْسُ)،[١٣] فهذا لم يقيد بوقت ما، بل جاء مطلقاً يقال في أي وقت.[١٤]


العلاقة بين الدعاء والذكر

يتبين لنا مما سبق أن العلاقة بين الدعاء والذكر هي علاقة تلازم وتداخل، فالدعاء نوع من أنواع الذكر، فهما متلازمان متداخلان، ولكن الدعاء أخص من الذكر، بمعنى أنه جزء منه، فالذكر أوسع من الدعاء وأعم، لأنه يشمل أنواعاً كثيرة من العبادة منها الدعاء، وقد يطلق الدعاء أيضاً على الذكر، كما في قوله -صلى الله عليه وسلم-: (أفضلُ الذكرِ: لا إلَه إلَّا اللهُ، وأفضلُ الدعاءِ: الحمدُ للهِ)،[١٥] فالفرق بينهما بسيط ودقيق، فلا بد أن يكون المسلم ذاكراً لله في كل أحواله وأوقاته، فمما يُقصد من الذكر هو المحافظة على الأذكار التي علمنا إياها النبي -صلى الله عليه وسلم- في الصباح والمساء وفي كل عبادة وعادة وعمل، والتمسك بها لأنها تذكرنا بالله -تعالى- وتربطنا به، ومما يُقصد من الدعاء هو التضرع إلى الله والتذلل إليه والثناء عليه، وعدم الاعتماد إلا عليه، وعدم السؤال إلا منه في كل حاجة وطلب دنيوي أو أخروي، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا سألتَ فاسألِ اللهَ، وإذا استعنتَ فاستعِنْ باللهِ)،[١٦] فلا بد أن يحافظ المسلم على كلا الأمرين من ذكر ودعاء.[١٧]


أيهما أفضل الدعاء أم الذكر؟

ذكر ابن القيم -رحمه الله- أن الذكر أفضل من الدعاء، لأن الذكر هو ثناء على الله -تعالى- بجميل أوصافه، وواسع آلائه، أما الدعاء فهو طلب العبد حاجته من ربه، فشتان بين من يثني على الله ويمجده، وبين من يقول: يا رب أعطني، ولهذا فالمستحب في الدعاء أن يبدأ الداعي بالثناء على الله، والحمد والتمجيد بين يدي الحاجة، وألا يبدأ بالدعاء مباشرة فيقول: يا رب ارزقني، وإنما يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله، ويعترف بعجزه أمام ربه، وفقره إليه، وتقصيره، وظلمه، ويتضرع إلى ربه -عز وجل- ثم يطلب حاجته بعد ذلك، فهذا أقرب وأدعى للإجابة -بإذن الله- وقد علمنا ربنا -تبارك وتعالى- كيف نحمده ونثني عليه ونمجده وندعوه، وذلك في كثير مما ورد في القرآن والسنة وعلى رأس ذلك كله سورة الفاتحة، ففيها الحمد والثناء والتمجيد والافتقار والاستعانة وطلب الهداية والتوفيق والنجاة، ومن ذلك قوله -تعالى- حاكياً عن يونس -عليه السلام-:{وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ۚ وَكَذلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ}،[١٨] ومنه ما جاء في الحديث النبوي: (سمعَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ رجلًا يدعو في صلاتِه لم يُمجِّدِ اللَّهَ ولم يُصلِّ علَى النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ عَجَّلتَ أيُّها المُصلِّي، ثمَّ علَّمَهم رسولُ اللَّهِ. وسمعَ رسول اللَّهِ رجلًا يُصلِّي فمجَّدَ اللَّهَ وحمِدَه وصلَّى علَى النَّبيِّ فقالَ رسولُ اللَّهِ: ادعُ تُجبْ وسلْ تُعْطَ).[١٩][١١]


المراجع

  1. سورة البقرة، آية:152
  2. سورة الأحزاب، آية:41
  3. سورة البقرة، آية:186
  4. سورة غافر، آية:60
  5. رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أبو موسى الأشعري، الصفحة أو الرقم:6407، حديث صحيح.
  6. رواه الألباني، في السلسلة الصحيحة، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم:2654، حديث حسن.
  7. الكلم الطيب، "فضل وفوائد الذكر والدعاء"، الكلم الطيب، اطّلع عليه بتاريخ 4/4/2021. بتصرّف.
  8. رواه النووي، في الأذكار، عن النعمان بن بشير، الصفحة أو الرقم:478، حديث صحيح.
  9. ^ أ ب رقم الفتوى: 40227 (19/11/2003)، "الذكر والدعاء لغة واصطلاحا"، إسلام ويب، اطّلع عليه بتاريخ 4/4/2021. بتصرّف.
  10. سورة العنكبوت، آية:45
  11. ^ أ ب أ.د خالد السبت، " المعنى العام والخاص والأخص للذكر"، موقع فضيلة الشيخ أ.د خالد بن عثمان السبت، اطّلع عليه بتاريخ 4/4/2021. بتصرّف.
  12. رواه الألباني، في السلسلة الصحيحة، عن عقبة بن عامر، الصفحة أو الرقم: 1514، حديث حسن.
  13. رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم:2695، حديث صحيح.
  14. أ. صالح الشامي (23/8/2019)، "فضل الذكر والدعاء"، الألوكة، اطّلع عليه بتاريخ 4/4/2021. بتصرّف.
  15. رواه ابن حبان، في صحيح ابن حبان، عن جابر بن عبدالله، الصفحة أو الرقم:846، حديث أخرجه ابن حبان في صحيحه.
  16. رواه ابن باز، في مجموع فتاوى ابن باز، عن عبدالله بن عباس، الصفحة أو الرقم:160، حديث صحيح.
  17. المنبر، "بين الدعاء والذكر"، المنبر، اطّلع عليه بتاريخ 4/4/2021. بتصرّف.
  18. سورة الأنبياء، آية:87-88
  19. رواه الألباني، في صحيح النسائي، عن فضالة بن عبيد، الصفحة أو الرقم:1283، حديث صحيح.