تأليف القلوب
يعد تأليف القلوب مقصدًا من مقاصد الإسلام، وغايةً نبيلةً من غاياته، لأن في ائتلاف القلوب قوةً للمسلمين، فيكونون كالجسد الواحد فيما بينهم، تغمرهم المودة والرحمة والتعاطف، فهم كالبنيان المرصوص في وجه أعدائهم، وقد أمر الله -تعالى- بهذا التآلف ونهى عن التفرّق، وذكّرَنا بنعمته علينا، حيث قال: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا}،[١] وقد أنعم الله -تعالى- على نبيه -صلى الله عليه وسلم- بتأليف قلوب المؤمنين، ومنَّ عليه بهذه النعمة العظيمة، حيث قال: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ۚ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}،[٢] فالتفرّق والتنازع وعدم طاعة الله ورسوله هي سبب الفشل والهزيمة والهلاك، قال -تعالى-: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}،[٣] فيجب على المسلم أن يكون سبباً في تآلف القلوب وأن يسعى إليه بشتى الوسائل.[٤]
دعاء اللهم ألّف بين قلوبنا الثابت في السنة
(اللَّهمَّ ألِّفْ بَيْنَ قلوبِنا وأصلِحْ ذاتَ بَيْنِنا واهدِنا سُبُلَ السَّلامِ ونجِّنا مِن الظُّلماتِ إلى النُّورِ وجَنِّبْنا الفواحشَ ما ظهَر منها وما بطَن، اللَّهمَّ احفَظْنا في أسماعِنا وأبصارِنا وأزواجِنا، واجعَلْنا شاكرينَ لنعمتِكَ مُثْنِينَ بها عليكَ قابلينَ بها فأتمِمْها علينا).[رواه ابن حبان، في صحيح ابن حبان، عن عبدالله بن مسعود، الصفحة أو الرقم: 996 ، حديث أخرجه ابن حبان في صحيحه.]
شرح دعاء اللهم ألّف بين قلوبنا
"يا رب أدخل في قلوبنا المودة والمحبة لبعضنا البعض، واجعلنا متحابين متعاطفين فيما بيننا، وأبعد عنا الكراهية والبعضاء والحقد، ودلنا على طرق الخير، ووفقنا للسلامة من الشرور، والفوز بالهداية والطاعة، وأنقذنا من الآثام والذنوب الظاهرة والباطنة، وحصِّن جوارحنا من سمعٍ وبصرٍ من المعاصي فلا نرتكبها ولا نقربها، واحفظ أزواجنا من الزلل ووفقهم للعمل الصالح، ووفقنا لأن نكون من الشاكرين لنعمك التي لا تعد ولا تحصى، نشكرك ونحمدك عليها في كل حال، ونثني عليك ثناءً جميلاً، متحدثين بالنعم كما أمرت، فأكمل لنا نعمك وأدمها علينا واحفظها لنا".[٥]
أهمية تأليف القلوب
إن المجتمع المسلم قائم على علاقة الأخوة الإيمانية بين أفراده، فالمسلم أخو المسلم، مهما كان شكله ولونه، ومهما كانت رتبته ومنزلته، لا فرق بينهم، ولا يجوز لأحد أن يتكبر على أحد، أو أن يكره أحدًا، أو أن يحقد على أحدٍ، أو أن يرى نفسه خيراً منه أو أزكى أو أعلى، فهذا يتنافى مع أسس العقيدة، ويخالف أوامر الدين، بل يجب أن تسود بينهم روح الأخوة بما تحمله من قيم التسامح والتراحم والعطف والإحسان والمحبة، وقد جاءت كثيرٌ من النصوص الشرعية الصحيحة الصريحة تؤكد هذه المعاني وتشدد عليها بكل وضوح، قال -تعالى-: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}،[٦] وقد مدح الله -سبحانه- المهاجرين والأنصار عندما ضربوا أروع الأمثلة في التآخي والتآلف والمودة والإيثار، فقال: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}،[٧] وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مَثَلُ المُؤْمِنِينَ في تَوادِّهِمْ، وتَراحُمِهِمْ، وتَعاطُفِهِمْ مَثَلُ الجَسَدِ إذا اشْتَكَى منه عُضْوٌ تَداعَى له سائِرُ الجَسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى)،[٨] وقال أيضاً: (لَا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ، حتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ)،[٩] وقال: (المسلمُ أخو المسلمِ، لا يظلِمُهُ ولا يخذلُهُ ولا يحقرُهُ، وحسْبُ امرئٍ منَ الشَّرِّ أن يحقرَ أخاهُ المُسْلِمَ)،[١٠] فمن أعظم الأخطار أن تتفرق قلوب المسلمين وتمتلئ حقداً وغلاً وتكبراً، والعياذ بالله، لأن ذلك هو نذير الشر، فزوال المحبة من القلوب هو دليل على نقص الإيمان وضعفه وتمهيدٌ لزواله، لأن الإيمان هو سبب المحبة والمودة بين المؤمنين.[١١]
أسباب التآلف والمحبة بين القلوب
إن هناك طرقاً دلّنا عليها الشرع الحنيف للتأليف بين القلوب ونشر المحبة بين المسلمين، فلا بد لنا من معرفتها والعمل بها مع الدعاء، ونذكر منها:[١٢]
- السعي للفوز بمحبة الله تعالى، لأنها السبب الرئيسُ لمحبة الناس، جاء في الحديث: (إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ إذا أحَبَّ عبدًا دَعا جِبريلَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقال: يا جِبريلُ، إنِّي أُحِبُّ فُلانًا، فأَحِبَّه؛ فيُحِبُّه جِبريلُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ويُنادي في السَّماءِ: إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يُحِبُّ فُلانًا، فأَحِبُّوه؛ فيُحِبُّه أهلُ السَّماءِ، ويُوضَعُ له القَبولُ في الأرضِ، وإذا أبغَضَ عبدًا كان مِثلَ ذلك)،[١٣] ويكون الفوز بمحبة الله -تعالى- عن طريق التقرب إليه بالنوافل، (وما يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بالنَّوافِلِ حتَّى أُحِبَّهُ)،[١٤] وعن طريق اتباع النبي -صلى الله عليه سلم-، {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}،[١٥] وعن طريق الزهد في الدنيا، (ازْهد في الدُّنيا يحبَّكَ اللَّهُ وازْهد فيما عندَ النَّاسِ يحبَّكَ النَّاسُ)،[١٦] وعن طريق المحبة في الله، والإحسان إلى الناس، قال -تعالى-:{وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.[١٧]
- المحافظة على حضور الجُمع والجماعات في المساجد، ففيها يكون الاجتماع والتعارف والتآلف بين المسلمين، ويتفقد بعضهم بعضاً، مما يزرع المحبة والمودة فيما بينهم، وقد ذكر -صلى الله عليه وسلم- من السبعة الذين يظلهم الله في ظله: (ورَجُلَانِ تَحَابَّا في اللَّهِ، اجْتَمعا عليه وتَفَرَّقَا عليه).[١٨]
- إفشاء السلام، وتبادل الزيارة والهدية، قال -صلى الله عليه وسلم-: (لا تَدْخُلُونَ الجَنَّةَ حتَّى تُؤْمِنُوا، ولا تُؤْمِنُوا حتَّى تَحابُّوا، أوَلا أدُلُّكُمْ علَى شيءٍ إذا فَعَلْتُمُوهُ تَحابَبْتُمْ؟ أفْشُوا السَّلامَ بيْنَكُمْ)،[١٩] وقال: (تَهادَوا تحابُّوا).[٢٠]
- التواضع والتبسم، والبشاشة وطلاقة الوجه، وإدخال السرور بالكلام الطيب، والشكر والثناء الجميل، قال -صلى الله عليه وسلم-: (تبسُّمُكَ في وجهِ أخيكَ صدقةٌ)،[٢١] وقال: (الكلمةُ الطيبةُ صدقةٌ).[٢٢]
المراجع
- ↑ سورة آل عمران، آية:103
- ↑ سورة الأنفال، آية:63
- ↑ سورة الأنفال، آية:46
- ↑ حسين آل الشيخ (6/2/2014)، "المحبة بين المسلمين"، طريق الإسلام، اطّلع عليه بتاريخ 27/3/2021. بتصرّف.
- ↑ الكلم الطيب، "شرح دعاء اللهم ألف بين قلوبنا"، الكلم الطيب، اطّلع عليه بتاريخ 29/3/2021. بتصرّف.
- ↑ سورة الحجرات، آية:10
- ↑ سورة الحشر، آية:9-10
- ↑ رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن النعمان بن بشير، الصفحة أو الرقم:2586، حديث صحيح.
- ↑ رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أنس بن مالك، الصفحة أو الرقم:13، حديث صحيح.
- ↑ رواه أحمد شاكر، في مسند أحمد، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم:239، حديث إسناده صحيح .
- ↑ د. لحسن العيماري (15/5/2017)، "تآلف القلوب"، الألوكة، اطّلع عليه بتاريخ 27/3/2021. بتصرّف.
- ↑ محمد صالح المنجد (24/9/2012)، "أسباب استمالة قلوب الناس"، إسلام ويب، اطّلع عليه بتاريخ 27/3/2021. بتصرّف.
- ↑ رواه شعيب الأرناؤوط، في تخريج مشكل الآثار، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم:3791 ، حديث إسناده صحيح على شرح مسلم.
- ↑ رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم:6502، حديث صحيح.
- ↑ سورة آل عمران، آية:31
- ↑ رواه النووي، في تحقيق رياض الصالحين، عن سهل بن سعد الساعدي، الصفحة أو الرقم:216، حديث حسن.
- ↑ سورة البقرة، آية:195
- ↑ رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم:1423، حديث صحيح.
- ↑ رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم:54، حديث صحيح.
- ↑ رواه ابن حجر العسقلاني، في بلوغ المرام، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم:277 ، حديث إسناده حسن.
- ↑ رواه ابن حبان، في صحيح ابن حبان، عن أبي ذر الغفاري، الصفحة أو الرقم:474، حديث أخرجه ابن حبان في صحيحه.
- ↑ رواه ابن حبان، في المقاصد الحسنة، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم:378، حديث صحيح.